''عندما بكى أبو بكر'' في وداع رمضان..
في وقت الظهيرة حين كان الناس يقيلون وفي بيوتهم يستريحون فاجأ النبي
صلى الله عليه وسلم رفيق دربه ووزير دعوته في الدخول وليس من عادته عليه
الصلاة والسلام أن يزور أبا بكر في مثل ذلك الوقت تقول أم المؤمنين عائشة رضي
الله عنها بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر قال قائل لأبي بكر هذا رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقال والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر. قالت
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل فقال النبي
صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أخرِج من عندك، فقال أبوبكر إنما هم أهلك
بأبي أنت يا رسول الله. قال النبي "إن الله قد أذن لي بالخروج"، فقال أبي بكر
"الصحبة بأبي أنت يا رسول الله!"
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نعم". تقول أم المؤمنين: "فوالله ما شعرت
قط قبل ذلك أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ".
أيها الأحبة إن أبا بكر رضي الله عنه بكى من فرحته بصحبة النبي صلى الله عليه
وسلم في مهجره مع علمه ما تقتضيه هذه الصحبة من أخطار وتضحيات فاجتمع
الخوف والحزن والفرح معا في قلبه رضي الله عنه وها نحن وقد اختلط في قلوبنا
الفرح بالعيد مع الحزن على فراق الشهر الكريم. فسبحان الله كيف يجتمع النقيضان
لكنه الأمل يطرق القلوب بعتق من النيران وفوز بالجنان ورضا الرحمن يعزي الصائمين
القائمين في فراقهم شهرهم، وخوفهم أن لا يعود إلا وقد حوت أجسادهم القبور وخلت
أصواتهم مما عمروه من دور, والخوف من أن يكونوا من المردودين أو من المحرومين
فقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون.
ومع شدة ما يعتصر القلب من ألم الفراق فإنه أيضًا يغمره فرح عظيم بالفطر مصداقا
لقوله صلى الله عليه وسلم "للصائم فرحتان فرحة عند فطرة "
وهذا ما وجدناه عند كل مغرب مضى "وفرحة عند لقاء ربه"
وهي الفرحة التـي نتمناها ونسعى لها بصيامنا وقيامنا فلا يلوم عليكم أحد أيها
الصائمون إن بكيتم فرحًا أو حزنًا؛ فتمام الصيام مفرح للمؤمنين فقد أكملوا العدة
وكبروا الله على ما هداهم وشكروه على نعمه التـي أولاهم.
إخوة الإسلام:
إننا في وقت قريب قد كنا ننتظر البشارة بالدخول، وها نحن ننتظر البشارة بالعيد،
وهكذا تمضي الأيام سريعة متتالية لتوصلنا إلى آجالنا. فلنغتنم أوقاتنا ولنشمر
عن ساعد الجد متعظين بدخول الشهر وخروجه؛ فالحياة كلها مثل شهركم هذا,
فرحتم لدخوله وبكيتم لخروجه وزبدة الأمر ما فعلتم في أيامه ولياليه. فقد دخل
الشهر على أناس كثر لم يزدهم إلا نفورا فأعرضوا عنه وما عمروه فهو شاهد عليهم
لا لهم، رغمت أنوفهم وأبعدهم الله حين فاتتهم هذه النفحات ولم يقتنصوا تلك
الفرصة للفوز بالجنات.
أيها المسلمون:
أعزيكم ونفسي في الشهر وأمنيكم ونفسي بتلك العطيات والجوائز الغاليات جنات
فتحت أبوابها من اغتنم فرصة الشهر فدخل منها فوالله لن يخرج منها أبدًا، ونيران غلقت
أبوابها فلا تظنن أن النجاة منها تنتهي بخروج الشهر الكريم. لا.. فإنها تراك من مكان
بعيد ففر منها بالثبات على طاعة مولاك والتزود بالأعمال الصالحة قبل أن ينتهي أجلك
وتحضر منيتك وتتمنى العودة لتعمل صالحًا؛ فيقال لك (كلا)
إن رمضان -وإن كان هو الشهر الذي فيه الصيام فريضة- فإن الصيام في غيرة تطوع؛ فلا
تحرم نفسك من حظها صيامًا في كل شهر، أو كل أسبوع. ففي حديث أبي أيوب
رضي لله عنه قال صلى الله عليه وسلم
" من صام رمضان وأتبعه ستًا من شوال كان كصوم الدهر "
رواه مسلم] وعن أبي فتادة رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن صيام يوم عرفة قال " يكفر السنة الماضية والباقية"
[رواه مسلم] وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل"
[رواه مسلم] وعنده أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن
صيام عاشوراء فقال "يكفر السنة الماضية" وعند البخاري
ومسلم من حديث عبدالله بن عمر بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم "صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله".
فهكذا تتنوع أوقات الصيام وتكثر لتتاح لنا في غير شهر رمضان، فإن كان بكاؤنا
لفراقه من أجل الصيام؛ ففي صيام ما سنه لنا الحبيب عزاء في مفارقة الصيام
في رمضان. فلا تحرم نفسك أيها المسلم من نصيبها من الصيام فإن الصيام لا عدل
له كما قال صلى الله عليه وسلم.
اللهم إنا نسألك الجنة.. اللهم أجرنا من النار.. اللهم أحسن عزائنا في فراق شهرنا،
واجعل لنا منه أوفر الحظ والنصيب، واجعل نصيبنا منه أعظم النصيب واجعلنا ممن كان
شهرهم شاهدًا لهم.
اللهم بقدر فرحنا بعيدنا بقدر حزننا على فراق شهرنا فلا تحرمنا من الفرح برحمتك
والدخول في جنتك والفوز برؤيتك يا ذا الجلال والإكرام.